يوم رباني في حياة الحبيب صلى الله عليه وسلم
د: أكرم كساب
أصدق ما يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: كانت حياته كلها لله، وقد أمر ربه بذلك فقال له:( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) الأنعام: 162، 163)، وقد قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. (مسلم).
وإذا أردنا أن نرقب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من أيامه لأدركنا هذا المعنى جليا، فهو قريب من ربه في ليس في محراب صلاته فحسب؛ وإنما في كل حسكون وحركة، وفي كل همسة ونبسة، وفي كلمة ولفظة، وفي كل قول وفعل.
في مسائه وصباحه… وفي حله وترحاله… وفي غدوه ورواحه… وفي أفراحه وأتراحه… وفي عسره ويسره… وفي أخذه وعطائه… وفي ضحكه وبكائه…
بل أكثر من ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم قريبا من ربه في يقظته ونومه.
وها هي حياته صلى الله عليه وسلم في أحد أيامه… وكأني به صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- وقد استيقظ من نومه، فأدرك نعمة الحياة بعد النوم أو الموتة الكبرى فكان أول ما يقوله هو:” الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور”(مسلم). ويقول:”الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليّ روحي، وأذن لي بذكره”(الترمذي).
ومع حمده ربه على نعمة الحياة، ونعمة المعافاة، لا ينسى حمده على إذنه له بذكره، فكما أن الحياة ليست بيد بشر، ولا المعافاة بيد مخلوق، فالذكر كذلك لا يتم للعبد إلا إذا أذن به الخالق…
فإذا صلى صلاته، شرع في أذكار صباحه، وهي أوراد وأذاكار؛ ما بين تسبيح وتحميد، وتكبير وتهليل، وثناء ودعاء، وذكر وشكر، وتضرع وتبتل، وخشوع وخضوع، وذل وانكسار… من مثل قوله: “أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له…” (مسلم).. ويقول: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلمته”(مسلم). ويقول:قوله:”أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبيننا محمد صلى الله عليه وسلم.. وملة أبينا إبراهيم حنيفا ولم يكن من المشركين” (أحمد). ويقول: “رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا” (أحمد).
وانظر إلى جميل هذه الكلمات، وبديع ما فيها من حمد الله تعالى؛ لا على نعمائه عليه فحسب؛ وإنما حمد متواصل على كل نعمة أنعم بها على مخلوق يعرفه أو لا يعرف؛ ” اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك؛ فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر” (ابن حبان).
فإذا طعم طعاما حمد ربه ما أطعم وما سقى، وما آوى وما كفى… فيقول:” الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا”(البخاري)، ويقول:” الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفي ولا مكفور” وقال مرة:”الحمد لله ربنا غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً ربنا”(البخاري).
يعلق الغزالي على هذا الثناء ويقارن بينه وبين غير المسلم فيقول: إن هناك أناسًا يملؤون أجوافهم بالطعام والشراب، ثم يمضون لشأنهم ما يدرون أن لله عليهم حقًا، إنهم كأي دابة دسّت فمها في مِزْوَدِها حتى شبعت وحسب، وهذا السلوك الدنيء لا يليق بمؤمن. (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء/ محمد الغزالي/ ص 32).
فإذا أراد الخلاء؛ ليفرغ ما في بطنه من الأذى، دخل قائلا:” أعوذ بك من الخبث والخبائث”(البخاري)، فإذا خرج قال:”الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه”(البيهقي).
وقد أحسن الغزالي حين قال: لكأن هذه الكلمات وضعها نفر من علماء الطب والأخلاق والبلاغة … فإنها ذكرت فضل الله فيما يسر من طعام شهي، وفيما ادخره البدن من أسباب حياته ونمائه، ثم فيما استبعده هذا البدن من نفايات تضر ولا تسر. أرأيت أجمل من هذا الحمد، وأرق من هذا السرد؟ إن النبي الإنسان دائم الاستحضار لآلاء الله مسارع إلى شكرها ما استطاع. (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء).
وله مع كل فعل ذكر.. فإذا خرج من بيته أو دخل له دعاء وذكر… وإذا دخل المسجد أو خرج له دعاء وذكر… وإذا دخل السوق له دعاء وذكر… وإذا رأى مبتلى له دعاء وذكر… وإذا ركب دابته أو نزل له دعاء وذكر… وإذا سافر أو رجع له دعاء وذكر… وإذا هنأ مسرورا، أو زار مريضا، أو عزى أخا له دعاء وذكر… وإذا غادر أو قفل… وإذا دخل قرية أو ارتحل… وإذا غزا أو غنم….
ثم هو مع كل تغير طارئ، وجديد حادث في الكون يتعبد لربه، مع هذا الكون من حوله، فللرياح ذكر.. وللمطر ذكر.. وللرعد ذكر.. وللبرق ذكر.. ووللهلال ذكر.. وللرعد ذكر..
ثم هو في صلاته لربه في تواصل كامل لا يحب أن تكون له الدنيا بهذه الركعات….
وبعد هذا كله إذا أوى إلى فراشه قال:” باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين” (الترمذي).
ويقول:”اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت”(مسلم).
ويقول:” اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت… (متفق عليه).”.
وها هي أعلى درجات العبودية تظهر، وأسمى علامات الاستسلام تعلن، فهو وإن توجه إلى نومه لكن العبودية المطلقة لا بد وأن يقر بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلمك للبراء بن عازب – رواي الحديث- ” فإن مت مت على الفطرة”.
ولا ينقطع ذكره صلى الله عليه وسلم لربه حتى بعد نومه، فهو كما قالت عنه الملائكة: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي إن عينيه تنامان وقلبه يقظان.. (الترمذي). وكما قال هو عن نفسه:” إن عيني تنامان ولا ينام قلبي” (البخاري).
ولذلك كان إذا استيقظ من الليل قال:”لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”(أبو داود).
ثم بعد ذلك يأخذ من الليل ما فرضه الله عليه….
فصلّ اللهم وسلم وبارك على حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم.
