جمع الطبيب الصلوات بسبب إجراء عملية جراحية
- السؤال: السلام عليكم ورحمة الله، لدي سؤال أرجو الإجابة عليه مشكورا، فأنا طبيب وأحيانا أدخل غرفة العمليات فلا يمكنني ترك العملية حتى أنهيها وإلا تعرض المريض للخطر، فهل يجوز جمع الصلاة؟ أفتنا مع الشكر…
ملخص الفتوى:
الأصل كما هو معلوم أن تصلى الصلاة على وقتها، وأما الجمع بين الصلوات بسبب المشقة الحاصلة بالعمل مما اختلف فيه العلماء، والجمهور على عدم الجمع، وممن قال بالجواز الحنابلة، والراجح هو جواز الجمع لوجود المشقة، ولا مانع من أن يجمع الطبيب بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير، ولا يجوز له ترك غرفة العمليات بحال إذا ترتب على ذلك مضرة بالمريض.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛؛؛
فالأصل كما هو معلوم أن تصلى الصلاة علة وقتها، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على وقتها من أفضل الأعمال، وروى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
اختلاف العلماء بسبب المشقة:
وأما الجمع بين الصلوات بسبب المشقة الحاصلة بالعمل مما اختلف فيه العلماء، والجمهور على عدم الجمع، وممن قال بالجواز الحنابلة، وهم أوسع الناس في هذا الباب، قال ابن تيمية: وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل… (مجموع الفتاوى (24/ 28). وقال المرداوي: يجوز الجمع لمن له شغل أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوفه على نفسه، أو حرمه، أو ماله، أو غير ذلك. انتهى. وقد قال أحمد في رواية محمد بن مشيش: الجمع في الحضر إذا كان عن ضرورة مثل مرض أو شغل. قال القاضي: أراد بالشغل ما يجوز معه ترك الجمعة والجماعة من الخوف على نفسه أو ماله…. (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2/ 336). وقال البهوتي: الحال السابعة والثامنة (لمن له شغل أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة) كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه… (كشاف القناع عن متن الإقناع (2/ 6).
مقاصد الشريعة تؤيد ما ذهب إليه الحنابلة وهو الراجح:
وما ذهب إليه الحنابلة هو الصحيح، وذلك لأن الشريعة جاءت بحفظ النفس كما جاءت بحفظ الدين، ولذلك إن كان في الصلاة على وقتها ضياع للعمل سواء فيما يتعلق بمصلحة المرء أو مصلحة غيره كما في حال الطبيب، فيجوز له الجمع لأن (لقمة العيش) مما يدخل في حفظ المال وحفظ النفس، الذي جاءت به الشريعة، قال الآمدي: المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات… (الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 274).
وقد رجح ذلك ابن تيمية فقال: والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم: مثل أن يكون الماء بعيدا في فعل صلاة وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين… (مجموع الفتاوى (21/ 458).
الجمع الصوري أفضل:
والجمع الصوري أفضل وأولى إن كان في مقدو صاحب العمل أن يفعل ذلك، وصورته كما بينت من قبل: أن يؤخر الصلاة الأولى (الظهر أو المغرب) إلى آخرها وقتها، ثم يصلي الصلاة الثانية في أول وقتها، وأشار إلى ذلك ابن تيمية فقال: وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قريب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر وإن كان ذلك جمعا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر… (مجموع الفتاوى (21/ 458).
لا يجوز للطبيب ترك غرفة العمليات إن ترتب على ذلك ضرر:
ولا يخفى عليك أخي الطبيب أن ما تقوم به من تخفيف الآلام ومداوة المرضى هو نوع من أفضل أنواع القربات، وأرى أن عمل الطبيب يدخل في كثير من أحاديث تفريج القرب وخدمة الناس، حتى وإن كان ذلك بمقابل، فالأطباء داخلون إن شاء الله فيما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”، وما رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ [ص:140] مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا…” (رواه الطبراني في الأوسط (6/ 139)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره 2623())
وللإمام الشافعي كلام رائع في فضل علم الطب، فها هو يقول: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام، أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه. وقال حرملة: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم… (سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/ 57)، وقال: إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو: الفقه، والعلم الذي للدنيا هو: الطب. وقال: لا تسكنن بلدا لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك… (آداب الشافعي ومناقبه/ ص244).
ومن ثمّ فلا يجوز للطبيب ترك غرفة العمليات -ومثل ذلك ترك مريض في أمس الحاجة إليه- بأي حال من الأحوال، وإلا كان آثما..
هذا؛ والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب
