من الذي يقرر جمع الصلوات في المسجد؟ الإمام أم المصلون أم الإدارة؟
- السؤال: مولانا الكريم: حضر وقت الصلاة وكان هناك مطر، وأصبح الناس قسمين: من يريد الجمع ومن يرى عدم الجمع، وعلت الأصوات، والسؤال: من الذي من حقه أن يقول نجمع أم لا نجمع؟ الإمام أم المصلون؟ أم إدارة المسجد؟ وماذا لو كان بعض المصلين يرى عدم الجمع؟ هل يصلي أم معهم أم يترك المسجد؟ وماذا نفعل حتى لا يقع الخلاف في المسجد؟ وشكر الله لك جهدك وتقبل منا ومنك…
ملخص الفتوى:
الأصل في أهل المسجد التوافق والألفة، ويجب على الإمام أن يحرص على وحدة المصلين في المسجد، وألا يخالف الشرع فيعرض نفسه لعدم قبول صلاته إن كره الناس إمامته لغرض شرعي، وأما قرار جمع الصلوات فهو للإمام لا المصلين ولا الإدارة، وعلى الإمام أن يرى تحقق الشروط، فإن تحققت جمع بالناس، وإلا فلا، وعلى الإمام أن يلاحظ المذهب السائد للناس، وليعلم أن الناس تهوى التخفيف دائما، كما يجب على الإمام مراعاة الناس وظروفهم، وعلى الجميع متابعة الإمام وتجنب الخلاف وارتفاع الأصوات، فلبيوت الله حرمتها، الأصل أن يتبع المصلون إمامهم، فهو ضامن لهم، ومن لم يشأ الجمع فليحرص على حرمة المسجد، وليصل مع إمامه، ولتكن صلاته الثانية نافلة، أو يصلي الأولى ويغادر المسجد دون خلاف ولا فرقة.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛؛؛
فلا يخفى علينا أن الجمع رخصة، وأنه إن تحققت شروطه جاز للناس أن يجمعوا بين (العصرين) وبين (المغربين)، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى تأصيل وحكمة، كما يحتاج إلى بيان وتوافق، ولذلك فقبل أن نسأل من صاحب القرار والفتوى، يجب أن نؤكد على عدد من المعاني المهمة تتعلق بالمسجد ورواده:
- الأصل في أهل المسجد التوافق والألفة لا التنابذ والفرقة، والله تعالى يقول عن أهل المساجد، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36، 38]، ويلاحظ أن الله تحدث عن أهل المسجد بصيغة الجمع لا بصيفة الإفراد، وهذا أحد أهداف المسجد وهو الوحدة والجماعة.
- إتيان الرخص أمر حثت عليه الشريعة، وقد تقدم حديث أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ” (رواه أحمد (5866) وقال محققو المسند: حديث صحيح).
- لا يمكن أن تكون الرخصة سببا في الفرقة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على عدم الاختلاف، روى مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»، وهذا يعني أن صلاة الجماعة تدعو إلى اتحاد صفوف المسلمين وجمع قلوبهم، ودعوة إلى وحدة كلمتهم، وقد روى أحمد عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُونَ حِمْصَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ” قَالَ زَائِدَةُ: قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ: الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ… (رواه أحمد (21710) وقال محققو المسند: إسناده حسن، وحسنه الألباني).
- يجب أن ينأى المصلون عن كل ما يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين، لأن ذلك كان أحد مقاصد أصحاب مسجد (الضرار) قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107]، قال ابن العربي: يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب، والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة؛ وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة… (أحكام القرآن لابن العربي (2/ 582).
- يجب على الإمام أن يحرص على وحدة المصلين في المسجد، وألا يخالف الشرع فيعرض نفسه لعدم قبول صلاته إن كره الناس إمامته لغرض شرعي لا لغرض دنيوي، ومن خلال مقاصد الجماعة يفهم ما جاء من وجوب تراضي المصلين على إمامهم، روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَلَاةً، مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ…»، (رواه أبو داود في الصلاة (593) وحسنة الألباني هذه الفقرة).
- وأرى أن يشرك الإمام المأمومين معه، حتى وإن كان ذلك من باب التدريب على أخذ القرار والمشاركة في اخذ القرار، فلا مانع أن يسألهم: ما أخبار الجو؟ هل المطر متوقع أم نازل فعلا؟ متى سيقف؟ ثم في النهاية يقرر ما يراه مناسبا للشرع.
- لو مهد الإمام قبل الصلاة ببيان الحكم باختصار شديد فهذا يعين الناس على فهم الحكم.
الإمام الفقيه العالم بنصوص الشرع وواقع الحياة هو صاحب قرار الجمع:
وأما قرار جمع الصلوات فهو للإمام لا المصلين ولا الإدارة، وعليه أن يرى تحقق الشروط، فإن تحققت شروط الجمع قال بالجمع، وإن لم تتحقق ترك الجمع حفاظا على دين الناس لأنه ضامن، روى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ” (رواه أحمد (7169) وقال محققو المسند: حديث صحيح)، لكنه ليس ديكتاتورا في هذا الأمر، فلينظر المصلحة فإن وجدت فليسع إليها، وليهيئ الناس لها.
على الإمام أن يراعي نصوص الشرع ومصالح الناس ومذاهبهم:
إذا تحققت شروط الجمع فينبغي على الإمام ألا يتشدد في ترك الجمع، فالناس تهوى التخفيف دائما، والشريعة مبناها على التخفيف لا التشديد، والتيسير لا التعسير.
كما يجب على الإمام مراعاة الناس وظروفهم، فهو وإن ولي هذا الأمر فليحذر أن يشق عليهم، وقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ».
كما على الإمام أن يراعي مذاهب الناس وما درجوا عليه، فالمسجد يضم مشارب مختلفة وأفكار متباينة، فمن الناس من يرى عدم الجمع مطلقا إلا في النسك كما الأحناف، ومن من يرى جمع العشاءين فقط، ومنهم من يرى جمع (الظهرين) و (العشاءين) كما الشافعية فليراعي الإمام ذلك كله، وما الإمامة في المسجد إلا سياسة الناس بالحكمة والدعوة إلى الله بالحسنى، وقد يترك الإمام ما يعتقد رجحانه حفاظا على وحدة المصلين وهذا هو الإمام الفقيه الواعي.
على المصلين تجنب الخلاف ورفع الأصوات ومتابعة الإمام:
تجنب الخلاف وارتفاع الأصوات، فلبيوت الله حرمتها، وارتفاع الأصوات دون حاجة مخالف لنصوص الشريعة، روى البخاري عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا – أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ – قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
من رأى عدم الجمع من المصلين فهو مخير بين صلاتها نافلة أو ترك الصلاة الثانية:
الأصل أن يتبع المصلون إمامهم، فهو ضامن لهم، وقد سبق في حديث أحمد:”الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ” ومن لم يشأ الجمع فليحرص على حرمة المسجد، ووحدة الصف، وليصل مع إمامه، وليس له أن يحدث جلبة في المسجد أو يزعم مخالفة الإمام للسنة، لأن الجمع من السنة والترك من السنة، ووحدة الصف واجب، فليتق الجميع ربه.
وهو بين أمرين:
- أن يصلي الصلاة الثانية معه وليجعلها نفلا، ثم يصلي الثانية في وقتها.
- أن ينصرف سالما غانما، وفي كل خير؛ من صلى وجمع الإمام، ومن ترك الجمع اعتقادا منه أن شروط الجمع لم تتوفر..
هذا؛ واالله تعالى أعلم.
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب
