- السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرى بعض الناس يحرصون على تعظيم الكعبة، فهل هذا التعظيم من الشرع؟ وما هي مظاهر تعظيم الكعبة كما جاء في القرآن والسنة؟ نرجو الإجابة مشكورين مأجورين….
ملخص الفتوى:
للكعبة منزلة عظيمة في النفوس الناس قديما وحديثا، وقد جاءت الآيات والأحاديث بتعظيم الكعبة وبيان شرفها، أن الله أضافها إلى نفسه مرارا في القرآن، وأمر بتطهيرها، وفرض زيارة هذا البيت دون غيره من بيوته سبحانه، وحرم مكة من أجله، وحرم بعض المباحات في الحرم من أجله، كما أن الله ضاعف السيئات فيها، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم من استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة… وسوى ذلك كثير…
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛
فلا شك أن للكعبة عند الله -وعند الناس- مكانة ومهابة، وما زالت -وستزال- الكعبة معظمة مشرفة في قلوب الناس ديانة وفطرة، وهذا من زمن آدم وحتى يومنا هذا؛ مرورا بالخليلين إبراهيم ومحمد وكل الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
وقد عبّر القرآن عن ذلك على لسان إبراهيم عليه السلام فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، جاء في كتب التفسير: ومعنى ذلك: فكأنه قال: واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم، أي تنزع، يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله:” تهوي إليهم” مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال: )أفئدة الناس( لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال:”من الناس” فهم المسلمون، فقوله:” تهوي إليهم” أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت…. (تفسير القرطبي (9/ 373)، وتفسير ابن كثير ط العلمية (4/ 441).
وأشار كل من صاحب (التحرير والتنوير) وصاحب (الظلال) إلى هذا المعنى الجميل، فقال سيد: وفي التعبير رقة ورفرفة، تصور القلوب رفافة مجنحة، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندِّي الجدب برقة القلوب… (في ظلال القرآن (4/ 2110)، وقال ابن عاشور: والمراد فاجعل أناسا يهوون إليهم. فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد… والمعنى: فاجعل أناسا يقصدونهم بحبات قلوبهم… (التحرير والتنوير (13/ 241).
وقد جاءت بذلك الأحاديث، فقد صح عند الترمذي: أن ابْن عُمَرَ نظر يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ… (قال الألباني حسن صحيح) وروي مرفوعا عند ابن ماجه عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا» (ضعفه الألباني والأرناؤوط).
- من صور تعظيم الكعبة:
ومن صور تعظيم الكعبة وتشريفها:
- أن الله أضافها إلى نفسه مرارا في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3]، وفي هذه الإضافة ما جعل الناس تشتاق إليه دائما.
- أن الله أمر بتطهيرها وكل بيت تبع لها، قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
- أن الله فرض زيارة هذا البيت دون غيره من بيوته سبحانه، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
- أن الله حرم مكة من أجله، وحرم بعض المباحات في الحرم من أجله، فحرمة البلد تبع لحرمة البيت، روى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: «لاَ هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا»، قَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، قَالَ: قَالَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ».
- أن الله ضاعف السيئات فيها، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، قال القرطبي: قال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفةK والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام… (تفسير القرطبي (12/ 34)
- نهى النبي صلى الله عليه وسلم من استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة، روى الشيخان عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: «فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى»، وهذا على تفصيل في كتب الفقه أفي البنيان أم الفضاء. وقد جعل الله ثوابا عظيما لمن راعى ذلك، روى الطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلَمْ يَسْتَدْبِرْهَا فِي الْغَائِطِ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمُحِيَ عَنْهُ سَيِّئَةٌ» (روى المعجم الأوسط (2/ 83) وصححه الألباني).
- النهي عن البصاق تجاهها سواء في صلاة أو في غيرها، روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: «أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا»، وروى أبو داود عَنْ حُذَيْفَةَ، أَظُنُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» (صححه الألباني، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح). وروى البزار وابن خزيمة عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ صَاحِبُ النُّخَامَةِ فِي الْقِبْلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ فِي وَجْهِهِ». وأحسب أن هذا لمن تعمد هذا الفعل القبيح.
- أن الجلوس قبالتها من أفضل المجالس، روى الطبراني عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا، وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ» (المعجم الأوسط (3/ 25)، وحسنه الألباني).
- جعل الله لهذا البيت في موضع واحد من كتابه ما ليس لغيره، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96، 97]، قال ابن القيم: فوصفه بخمس صفات:
- أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض.
- أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم أبرك منه.
- أنه هدى وصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى.
- ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية.
- الأمن لداخله… بدائع الفوائد (2/ 45).
هذا؛ والله تعالى أعلم…
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب
