(75) هل لا بد من الفصل بين الأذان والإقامة. وكم المدة؟

  1. السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: هل يجوز إقامة الصلاة دون وقت معين؟ وما هو الوقت الذي يمكن أن نحدده بين الأذان والإقامة؟ وبعد الاتفاق قال بعضهم: كيف تحددون ذلك؟ وما الدليل؟ فما قولكم بارك الله فيكم…

ملخص الفتوى:

فمن السنة ترك وقت بين الأذان والإقامة، وذلك أن المقصود من الأذان إعلام الناس بدخول الوقت، وهم بحاجة إلى وقت يتجهزون فيه، وقد نص الفقهاء على كراهة الإقامة بعد الآذان مباشرة، لكنه ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل على تحديد وقت معين، وكل ما جاء من أحاديث في توقيت مدة معينة لا يصح. وقد حاول العلماء من القديم إيجاد قدر محدد بين الأذان والإقامة، وكان المقياس عندهم بعدد الآيات، ولكن كل ما جاء في هذه الأقوال هو أمر تقديري الأصل فيه تحقيق المصلحة، وعليه فإنما يرجع في ذلك إلى ما يتفق عليه الناس. ولا مانع من تحديد ما بين الإقامة والأذان بعدد معين من الدقائق تراعى فيه مصلحة الناس.

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛

أما بعد؛

فزادكم الله حرصا، وجمع الله كلمتكم، وأبعد الشيطان عنكم، وأجيبكم على سؤالكم على هذا النحو:

  • السنة وجود وقت بين الأذان والإقامة:

لقد جاءت السنة بترك وقت بين الأذان والإقامة، روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ، ثَلاَثًا لِمَنْ شَاءَ»، قال النووي: المراد بالأذانين الأذان والإقامة… (شرح النووي على مسلم (6/ 123). وقال ابن رجب: لا اختلاف أن المراد بالأذانين في الحديث: ” الأذان والإقامة، وليس المراد الأذانين المتواليين… (فتح الباري لابن رجب (5/ 355).

وروى أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» (صححه الألباني والأرناؤوط).

  • العلة من وجود وقت بين الأذان والإقامة:

ووجود وقت بين الأذان والإقامة أمر يظهر منه المقصود من وجود أذان وإقامة، وذلك أن المقصود من الأذان إعلام الناس بدخول الوقت، وبعد الإعلام يحتاج الناس إلى وقت يتجهزون فيه، وهذا لا شك يحتاج إلى وقت، وقد (صرح الفقهاء باستحباب الفصل بين الأذان والإقامة بصلاة أو جلوس أو وقت يسع حضور المصلين فيما سوى المغرب، مع ملاحظة الوقت المستحب للصلاة) (الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 15).

وقد استدل لذلك بما رُوي عند الترمذي عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ: «يَا بِلَالُ، إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ فِي أَذَانِكَ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» (ضعفه الألباني) والحديث وإن كان ضعيفا سندا إلا أن المعنى يصح؛ إذ ما الداعي لجعل بعد الأذان إقامة؟! قال الخطيب الشربيني: ويسن أن يفصل المؤذن والإمام بين الأذان والإقامة بقدر اجتماع الناس في مكان الصلاة وبقدر أداء السنة التي قبل الفريضة… (مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/ 325).

ولذلك نص الفقهاء على كراهة الإقامة بعد الآذان مباشرة، جاء في (الموسوعة الفقهية): وتكره عندهم -أي الفقهاء- الإقامة للصلاة بعد الأذان مباشرة بدون هذا الفصل… (الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 15).

  • لا نص في تحديد وقت محدد بين الأذان والإقامة:

وليس في القرآن ولا في السنة ما يدل على تحديد وقت معين يجب الوقوف عنده، قال ابن بطال: قال بعض الفقهاء: أما كم بين الأذان والإقامة في الصلوات كلها فلا حَدَّ في ذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت… (شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 252).

وكل ما جاء من أحاديث في توقيت مدة معينة لا يصح، قال سيد سابق: يطلب الفصل بين الاذان والاقامة بوقت يسع التأهب للصلاة وحضورها لأن الاذان إنما شرع لهذا. وإلا ضاعت الفائدة منه. والأحاديث الواردة في هذا المعنى كلها ضعيفة… (فقه السنة (1/ 118). وقد بوب البخاري في صحيحه بابا لذلك جعل عنوانه: (كم بين الأذان والإقامة)؛ وقد علق على ذلك ابن حجر فقال: أما قوله: (باب كم بين الأذان والإقامة)؛ لعله أشار بذلك إلى ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال “وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ”، أخرجه الترمذي والحاكم لكن إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث سلمان.. وكلها واهية؛ فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت… (فتح الباري لابن حجر (2/ 106)، وقال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها… (نيل الأوطار (2/ 12).

  • العلماء من القديم حاولوا التقدير بين الأذان والإقامة:

وقد حاول العلماء من القديم إيجاد قدر محدد بين الأذان والإقامة، ونقل ذلك عنهم، قال الزيلعي: وروى الحسن عن أبي حنيفة في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آية، وفي الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة عشر آيات، وفي العصر بقدر ركعتين يقرأ فيهما عشرين آية، والعشاء كالظهر… (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (1/ 92). وقال البهوتي: (ويسن أن يؤخر الإقامة) بعد الأذان (بقدر) ما يفرغ الإنسان من (حاجته) أي: بوله وغائطه (و) بقدر (وضوئه، وصلاة ركعتين، وليفرغ الآكل من أكله ونحوه) أي: كالشارب من شربه… (و) يسن (في المغرب) أي: إذا أذن لها أن (يجلس قبلها) أي: الإقامة (جلسة خفيفة)… (كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 243).

لكن كل ما جاء في هذه الأقوال هو أمر تقديري الأصل فيه تحقيق المصلحة، ولهذا قال الكاساني: وهذا ليس بتقدير لازم، فينبغي أن يفعل مقدار ما يحضر القوم مع مراعاة الوقت المستحب… (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 150).

  • أمور تراعي في تحديد وقت الإقامة:

وعليه فإنما يرجع في ذلك إلى ما يتفق عليه الناس ويراعى في ذلك:

  • يفضل التعجيل بالصلاة ما كان المرء منفردا لا جماعة معه، ومثل ذلك بالنسبة للمرأة، لما رواه البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
  • تحديد وقت بين الأذان والإقامة أمر تقديري، ويدل على ذلك حديث جابر وفيه: ” إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ”، قال ابن رجب: هذا الحديث: دليل على أن الأفضل في صلاة الإمام العشاء الآخرة مراعاة حال المأمومين المصلين في المسجد، فإن اجتمعوا في أول الوقت فالأفضل أن يصلي بهم في أول الوقت، وإن تأخروا فالأفضل أن يؤخر الصلاة حتى يجتمعوا؛ لما في ذلك من حصول فضل كثرة الجماعة، ولئلا يفوت صلاة الجماعة لكثير من المصلين… (فتح الباري لابن رجب (4/ 370).
  • أن يكون بين الأذان والإقامة وقت يكفي للوضوء والحضور إلى المسجد لإدراك الصلاة مع الإمام.
  • الأصل أن الإمام هو صاحب الحق في تحديد وقت الإقامة، وقد سبق حديث جَابِرَ “أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ”، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدد الوقت بحسب ما يراه.
  • لا بد أن تراعى مصلحة الناس، إذ ليس معنى أن الإمام هو صاحب الحق أن ينفرد بذلك لمصلحة خاصة؛ لا. وإنما يراعي مصلحة الغالب من الناس. قال الشوكاني معلقا على حديث بلال: لأن من كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل لا سيما إذا كان مسكنه بعيدا من مسجد الجماعة، فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها… (نيل الأوطار (2/ 12).
  • وكذلك تراعى طبيعة أهل الحي، فإن كانوا سراعا في الحضور روعي ذلك، وإن كانوا مرتبطين بأعمال كما في مساجد السوق روعي ذلك فيعجل الإمام بالإقامة، وإن كان أهل المسجد ممن عرفوا بالتأخير لحاجة أو نحو ذلك روعي ذلك؛ إذ الأصل هو تحقيق المصلحة لمجموع الناس. وقد روى البيهقي عَنْ سَالِمِ أَبِى النَّضْرِ: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا رَأَىَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَلِيلاً جَلَسَ حَتَّى يَرَى مِنْهُمْ جَمَاعَةً ثُمَّ يُصَلِّى، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ فَرَأَى جَمَاعَةً أَقَامَ الصَّلاَةَ… (صححه الألباني)، وعند أبي داود عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا رَآهُمْ قَلِيلًا جَلَسَ لَمْ يُصَلِّ، وَإِذَا رَآهُمْ جَمَاعَةً صَلَّى»،… (قال الأرناؤوط: رجاله ثقات وهو مرسل، وضعفه الألباني).
  • يراعى في صلاة الفجر الاستيقاظ والاستعداد فللفجر ما ليس لغيره، وقد يكون المرء بحاجة إلى غسل لاحتلام أو غيره.
  • إذا اتفق الناس على وقت فعلى الإمام الالتزام به حتى لا يفوت على الناس صلاة الجماعة، إلا أن تكون هناك حاجة أو مصلحة؛ كصلاة جنازة فيعجل من أجلها، أو مجلس علم لم يكتمل فيؤخر منه أجله، ويراعى المصلحة في كل…
  • لا مانع من أن يختلف وقت الإقامة من مسجد لآخر ويعلم الناس بذلك، ويكون في ذلك فرصة لمن أراد التعجيل فليذهب للمسجد الذي يعجل، ومن أراد التأخير فليذهب إلى غيره.
  • لا مانع من تقدير الوقت بعدد من الدقائق:

وقياسا على ما اجتهد فيه الفقهاء من جعل مقدار معين من الآيات بين الأذان والإقامة، فلا مانع من تقدير ذلك بعدد من الدقائق تقل أو تزيد حسب:

  • الصلاة التي ستصلى، ففي المغرب السنة التعجيل، وكذلك في الفجر، والأصل في الظهر التأخير.
  • طبيعة الحضور وطبيعة المكان، فإن كان المسجد في السوق أو الطريق روعي ذلك، وإن كان المسجد في حي أهله مرتبط بعمل يتأخرون فيه يراعى ذلك.

هذا؛ والله تعالى أعلم

الفقير إلى عفو ربه

أكرم كساب

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*
*