ما حكم الزواج من الكتابية (يهودية أو نصرانية)؟
- السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ، هل يجوز للمسلم أن يتزوج من امرأة كتابية (يهودية أو نصرانية)؟ أفيدونا يرحمكم الله؟
ملخص الفتوى:
الجمهور على جواز الزواج من الكتابية، وقد جاء القرآن والسنة بذلك؛ ومن الصحابة من تزوج من يهوديات ومنهم من تزوج من نصرانيات، ويقوى ذلك إن كان في ذلك دعوة إلى الإسلام، وهذا دليل على التسامح مع المخالف، والدعوة إلى عالم متعايش رغم الاختلافات، والعفة شرط أساس في الزواج من الكتابية -وكذلك المسلمة-، وللزواج من غير المسلمة أضرار يجب تجنبها؛ فمن خاف ضياع دين ذريته عند الزواج من الكتابية فليتق الله في نفسه وفي ذريته، ولا يقدم على هذا الزواج.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛
فالزواج من الكتابية من المشروع المباح الذي جاءت به الشريعة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. قال القرطبي في هذه الآية: قالت طائفة حرم الله نكاح المشركات في سورة البقرة، ثم نسخ في هذه الجملة نساء أهل الكتاب فأحلهن في سورة المائدة… (الجامع لأحكام القرآن / ج3 / ص 66) . وقال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مرادا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}… (الجامع لأحكام القرآن / 3 / 66). وجاء في (الموسوعة الفقهية): ويجوز للمسلم زواج الحرائر من نساء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى… ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تزوجوا من أهل الذمة… (الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 26).
من تزوج من الصحابة بالنصرانيات:
ومن الصحابة من أخذ بهذا وتزوج من نساء أهل الكتاب ومنهم: الخليفة الثالث الحيي الكريم ذو النورين عثمان بن عفان، فقد تزوج رضي الله عنه بعد وفاة بنتي رسول الله من نائلة بنت الفرافصة الكلبية. قال ابن كثير: وقد كانت نصرانية وأسلمت بعد زواجها، وكانت نائلة نعم المرأة لزوجها. كما تزوج طلحة بن عبيد الله نصرانية. قال ابن القيم في كتابه ” أحكام أهل الذمة”: والمقصود أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب، وفعله أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم فتزوج عثمان نصرانية، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانية، وتزوج حذيفة يهودية… (البداية والنهاية ( 7/ 153، و (أحكام أهل الذمة (2 /421).
الحكمة من إباحة الزواج من الكتابية:
هناك حكمة بالغة من الزواج من الكتابية، وقد تحدث العلماء قديما وحديثا في ذلك، ومن هذه الحكم:
- رجاء لإسلامها: قال الكاساني: يجوز نكاح الكتابية لرجاء إسلامها، لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة، وإنما نقضت الجملة بالتفصيل… فيجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة، بخلاف المشركة، فإنها في اختيارها الشرك ما ثبت أمرها على الحجة، بل على التقليد بوجود الآباء على ذلك …” بدائع الصنائع ( ج2/ ص 270 ).
- دليل التسامح مع المخالف: قال محمد عبده: لقد أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية ـ نصرانية كانت أو يهودية ـ وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها أيغيب عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذي لم يعهد عند من سبق، ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه… الإسلام والنصرانية مع المدنية والعلم ( ص 88- 90 ).
- إزالة الحواجز بين أصحاب الشرائع: يقول سيد سابق: وإنما أباح الإسلام الزواج منهن ليزيل الحواجز بين أهل الكتاب وبين الإسلام، وهو أسلوب من أساليب التقريب العملي بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، ودعاية للهدى ودين الحق… فقه السنة ( ج2 / ص 90).
- إقامة مجتمع عالمي متعايش: يقول سيد قطب حيث: إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم ـ أهل الكتاب ـ حريتهم الدينية ; ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين – أو منبوذين – إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة والخلطة. فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك. ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم – وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر – طيبات للمسلمين، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات. وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل. فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية. ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة. وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ; ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي. فيما يختص بالعشرة والسلوك (أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر)… (في ظلال القرآن (ج 2 / ص 848 ).
- العفة شرط أساس:
ولا شك أن العفة شرط أساس في الزواج من الكتابية، قال القرطبي: يعني العفائف.. (تفسير القرطبي (3/ 71). وقال: ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة، أي ممتنعة من الفسق… (تفسير القرطبي (5/ 120). وهو بالمناسبة شرط كذلك في غيرها من المسلمات، قال ابن كثير: أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء… (تفسير ابن كثير (2/ 233).
فقه المآلات مهم في زواج الكتابية:
والحق أن الزواج من (الكتابية) وإن كان مباحا وحصل به غض البصر، إل أن فيه الكثير أضرار، وبخاصة على الأولاد، وتزداد الأضرار في الغرب، وقد نقل القرطبي عن ابن حبيب قوله: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم… (تفسير القرطبي (3/ 67)، وهو قول ينبغي الوقوف عنده، فالزواج من الكتابيات وإن كان من سبل التعايش، إلا أنه ينبغي أن ينظر إلى المآلات، فكم من زواج من غير مسلمة كانت نتيجته أن اعتقد الأولاد دين أمهاتهم، أو تركوا لاختيار دينا عند الكبر، أو ترك عبادة الله بالكلية.
هذا والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب