فتاوى الصلاة (5) حكم صلاة المنفرد خلف الصف وأين يقف؟

حكم صلاة المنفرد خلف الصف وأين يقف؟

  1. السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… لو دخل الرجل المسجد ولم يجد فرجة فصلى منفردا، هل تبطل صلاته، أم تصح؟ وأين يقف إذا لم يجد فرجة؟

ملخص الفتوى:

        صلاة المنفرد خلف الصف تنافي ما من أجله شرعت صلاة الجماعة، وقد اختلف الفقهاء في صلاة من صلى خلف الصف، والراجح أنها صحيحة بلا كراهة إذا وجد عذر، وتصح مع الكراهة إن انتفى العذر؛ وهذا قول الجمهور. وأما من دخل فلم يجد فرجة في الصف؛ فإن وجد فرجة في صف متقدم دخل فيها، وإذا لم يجد فرجة فلينتظر حتى يأتي أحد، فإن خاف فوات الركعة فله جذب أحد المصلين إن توسم فيه فقها، وإلا صلى خلف الصف…

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛

أما بعد،

فأجيب على هذا السؤال مستعينا بالله تعالى على هذا النحو:

إتمام الصفوف واجب لا يستهان فيه:

        ذكرت في فتوى سابقة، أن الشريعة حضت على إكمال الصفوف وإتمامها، روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»، وروى أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ” (رواه أحمد (24381)، وقال محققو المسند: حديث حسن)، وروى الطبراني عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي صَفٍّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، (رواه الطبراني في الأوسط (6/ 61)، وقال الألباني: صحيح لغيره/ صحيح الترغيب والترهيب (505).

والأصل أن يبدأ الناس صفهم الأول ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا يشرعون في الثالث حتى يكملوا الثاني… وهكذا، ويجب على المصلين إكمال كل صف قبل البدء في في الذي بعده، وهذا متفق عليه، جاء في (الموسوعة الفقهية): وهذا موضع اتفاق الفقهاء… (الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 36). وهذا الوجوب من صيغة الأمر التي جاءت في الحديث الذي رواه أحمد عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ”، (رواه أحمد (13439)، وقال محققو المسند: حديث صحيح).

صلاة المنفرد خلف الصف تنافي ما من أجله شرعت صلاة الجماعة:

        نأتي هنا إلى (صلاة المنفرد) فظاهر أن صلاة هذا المنفرد تخالف أمورا عدة:

  • المقصد من صلاة الجماعة.
  • إتمام الصفوف.
  • تسوية الصفوف.

وقد سبق الحديث عن ذلك فيما سبق.

  • أقوال الفقهاء في صلاة المنفرد خلف الصف:

وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

  • القول الأول: بطلان صلاته إن صلى ركعة واحدة:

        ذهب الحنابلة إلى القول ببطلان صلاة المنفرد، وهو قول بعض السلف، وبه قال ابن حزم، قال ابن قدامة: ومن صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره، أعاد الصلاة، وجملته أن من صلى وحده ركعة كاملة، لم تصح صلاته. وهذا قول النخعي، والحكم، والحسن بن صالح، وإسحاق، وابن المنذر…. (المغني لابن قدامة (2/ 155). وقال ابن حزم:

ومن صلى وأمامه في الصف فرجة يمكنه سدها بنفسه فلم يفعل: بطلت صلاته… (المحلى بالآثار (2/ 372). وقال أيضا: وببطلان صلاة من صلى خلف الصف منفردا يقول الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق… (المحلى بالآثار (2/ 380).

واستدل هؤلاء بأدلة منها:

  • ما رواه أحمد أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ عَلِيَّ بْنَ شَيْبَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَصَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَحَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ إِلَى رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ” قَالَ: وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ “، ” اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، فَلَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ” (رواه أحمد (16297) وقال محققو المسند: إسناده صحيح).
  • ما رواه أحمد عَنْ وَابِصَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ ” (رواه أحمد (18004) وقال محققو المسند: حديث صحيح).
  • قالوا: النهي يقتضي الفساد، وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه، وللجهل تأثير في العفو… (المغني لابن قدامة (2/ 155).
  • القول الثاني: صحة الصلاة:

ويرى الجمهور صحة الصلاة:

  • بلا كراهة إذ وجد عذر.
  • مع الكراهة إن انتفى العذر.

جاء في (الموسوعة الفقهية): يكره أن يصلي واحد منفردا خلف الصفوف دون عذر، وصلاته صحيحة مع الكراهة، وتنتفي الكراهة بوجود العذر… وهذا عند جمهور الفقهاء: – الحنفية والمالكية والشافعية -… (الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 183).

واستدل هؤلاء بأدلة:

  • ما رواه البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ». فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة وقد بدأ منفردا يدل على الصحة لا البطلان، قال زكريا الأنصاري: ويؤخذ منه عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها… (الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/ 451).
  • قال الشوكاني: ومن جملة ما تمسكوا به حديث ابن عباس وجابر، إذ جاء كل واحد منهما فوقف عن يسار رسول الله مؤتما به وحده، فأدار كل واحد منهما حتى جعله عن يمينه، قالوا: فقد صار كل واحد منهما خلف رسول الله في تلك الإدارة… ((نيل الأوطار (3/ 220).
    • قال الشوكاني: وهو تمسك غير مفيد للمطلوب؛ لأن المدار من اليسار إلى اليمين لا يسمى مصليا خلف الصف وإنما هو مصل عن اليمين… (نيل الأوطار (3/ 220).

وقد ردوا على  حديث ” لَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ”  ذلك بأمور:

  • قالوا: الأمر بالإعادة في قوله:” لَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ “:
    • استحبابا لا وجوبا.
    • نفي الكمال لا نفي الصحة، قال السرخسي: وتأويل الحديث نفي الكمال لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» والأمر بالإعادة شاذ، ولو ثبت فيحتمل أنه كان بينه وبين الإمام ما يمنع الاقتداء، وفي الحديث ما يدل عليه، فإنه قال: “في حجرة من الأرض” أي ناحية… (المبسوط/ (1/ 192).
  • قالوا بأن حديث وابصة:” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ” بأنه ضعيف، قال الشوكاني وهو يرد هذا الزعم: ومن متمسكاتهم ما روي عن الشافعي: أنه كان يضعف حديث وابصة ويقول: لو ثبت لقلت به، ويجاب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت… (نيل الأوطار (3/ 221).
  • لو كانت الصلاة باطلة لما انتظر النبي صلى الله عليه وسلم المنفرد حتى ينتهي، قال النووي: ويدل على صحة التأويل أنه صلى الله عليه وسلم انتظره حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على الاستمرار فيها وهذا واضح… (المجموع شرح المهذب (4/ 298).
  • الراجح:

والذي أراه راجحا هو الجمع بين الأمر بالإعادة والأمر بعدم الإعادة، قال الشوكاني: الأولى الجمع بين أحاديث الباب بحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر مع خشية الفوت لو انضم إلى الصف. وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل: من لم يعلم ما في ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم، ومن علم بالنهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة… (نيل الأوطار (3/ 221).

وخلاصة ذلك:

  • والراجح أنها صحيحة بلا كراهة إذا وجد عذر.
  • وتصح مع الكراهة إن انتفى العذر.
  • ماذا يفعل من دخل فلم يجد فرجة في الصف؟

وأما من دخل فلم يجد فرجة في الصف، فقد اجتهد الفقهاء في ذلك، وملخص ما جاء كما في (الموسوعة الفقهية):

  • إن وجد فرجة في الصف الأخير وقف فيها، أو وجد الصف غير مرصوص وقف فيه؛
  • إن وجد الفرجة في صف متقدم فله أن يخترق الصفوف ليصل إليها لتقصير المصلين في تركها… وهذا باتفاق بين الفقهاء في الجملة إذ إن بعض المالكية يحدد الصفوف التي يجوز اختراقها بصفين غير الذي خرج منه والذي دخل فيه، كذلك قال الحنابلة: لو كانت الفرجة بحذائه كره أن يمشي إليها عرضا بين يدي بعض المأمومين…
  • ومن لم يجد فرجة في أي صف فقد اختلف الفقهاء فيما ينبغي أن يفعله حينئذ.
    • قال الحنفية: ينبغي أن ينتظر من يدخل المسجد ليصطف معه خلف الصف، فإن لم يجد أحدا وخاف فوات الركعة جذب من الصف إلى نفسه من يعرف منه علما وخلقا لكي لا يغضب عليه، فإن لم يجد وقف خلف الصف بحذاء الإمام، ولا كراهة حينئذ، لأن الحال حال العذر.
    • قال المالكية: يصلي منفردا عن المأمومين، ولا يجذب أحدا من الصف، وإن جذب أحدا فلا يطعه المجذوب؛ لأن كلا من الجذب والإطاعة مكروه
    • والصحيح عند الشافعية: يستحب أن يجر إليه شخصا من الصف ليصطف معه، لكن مع مراعاة أن المجرور سيوافقه، وإلا فلا يجر أحدا منعا للفتنة، وإذا جر أحدا فيندب للمجرور أن يساعده لينال فضل المعاونة على البر والتقوى.
    • وقال الحنابلة: وقف عن يمين الإمام إن أمكنه ذلك؛ لأنه موقف الواحد، فإن لم يمكنه الوقوف عن يمين الإمام فله أن ينبه رجلا من الصف ليقف معه، وينبهه بكلام أو بنحنحة أو إشارة ويتبعه من ينبهه. وظاهره وجوبا لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به. ويكره تنبيهه بجذبه نصا، واستقبحه أحمد وإسحاق لما فيه من التصرف فيه بغير إذنه… (الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 186).

هذا؛ والله تعالى أعلم

الفقير إلى عفو ربه

أكرم كساب

 

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*
*