كثيرا ما ينشغل الناس بأحداث الولايات المتحدة الأمريكية مهما كان حجمها، صغر أم كبر، حقر أم عظم، قل أم كثر. وقد ضرب إعصار (ميلتون) مساحات شاسعة من ولاية (فلوريدا) في هذا الشهر، وحسب الصحف فقد ارتفعت حصيلة الموتى إلى 16 قتيلا، وبدأ السكان في العودة إلى بيوتهم رغم انقطاع الكهرباء عن الملايين من السكان، وقد قدر الخسائر بنحو 50 مليار دولار.
وللناس -مسلمين وغيرهم- نظرة في مثل هذه الأحداث، ولي مع هذا الحدث عدة وقفات:
الوقفة الأولى: نظرة المسلم للكون: وهي تتلخص في الآتي:
- الكون كتاب الله:
إن المؤمن يدرك جيداً أن القرآن هو كتاب الله المسطور، ولا يغفل كذلك عن كتاب الله المنظور وهو الكون. أما الكتاب المنظور فهو خلق الله، وأما الكتاب المسطور فهو كلام الله، ولن يتعارض كلام الله مع خلق الله أبداً، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] يقول عبد الرزاق نوفل: لله عز وجل كتابان ينطقان بجلاله وعظمته. ويشيران إلى بعض رحمته وقدرته، ويؤكدان وجوده، ويدللان على وحدانيته. كتاب منظور آياته؛ ملموسة فصوله وأبوابه؛ يراها كل إنسان في كل زمان ومكان؛ إذا تطلع إلى السماء فرأى أي نجم أو كوكب؛ أو نظر إلى الأرض فبصر بنبات أو حيوان، إذا تفرس في غيره أو رأى نفسه. وكتاب مقروء آياته؛ مفهوم ألفاظه، واضحة عباراته، يتلوها كل إنسان حسبما شاء وقتما أراد، فيه العظة والعبرة. وفيه الأمر الصحيح والقول الفصل؛ فيه الأدلة العقلية، والشواهد المنطقية، والقياسات العلمية، وفي كل آية من الكتابين .. أسرار .. وأسرار .. وفي كل سر .. عجب .. وأي عجب (أسرار وعجب/ عبد الرازق/ ص9 ).
- الكون خلق من خلق الله:
وكما أن الكون كتاب الله؛ فهو كذلك خلق من خلق الله، أبدع الله فيه وأجمل. وتجلت فيه القدرة خلقاً وإبداعاً وزينة وجمالاً. ولم يكن هذا الكون صدفة عمياء، ولا ضرب عشواء. ولكنه خلق لابد له من خالق.
- الكون خلق جميل:
ويعد الكون خلقاً جميلاً يبهر جماله الأبصار، وتخطف روعته الألباب، ويحرك رونقه الجميل الرائع المشاعر والعواطف، وتمس بداعته الأحاسيس والوجدان. ففي السماوات يقول سبحانه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، وفي الأرض يقول جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]، وفي الحيوان يقول جل شأنه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، وفي كل خلق الأرض يقول: { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] (3).
- الكون عابد لله:
وإذا كان الكون خلقا من خلق الله فلا بد وأن يكون عابداً لربه، مقراً له بربوبيته، شاهداً له بوحدانيته، خاشعاً لعظمته، ساجداً لجلاله وحكمته. إنه مخلوق ساجد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18]، ومخلوق مسبح: {) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ، ورافض للشرك: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 88 – 92].
- الكون صديق محبوب:
ونظرة المسلم للكون لا تجعله عدواً لدوداً، أو شبحاً مخيفاً؛ لكنه صديق ودود، لأن ربهما واحد، فله يسجدان، وإليه يتوجهان، وله يتضرعان. ولهذا نشأ بين المسلم وبين الكون علاقة حب، روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وروى مسلم صحيح مسلم أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وروى أحمد عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، قَالَ: فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهَا غُلَامٌ نَجَّارٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا، أَفَلَا آمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: ” بَلَى “، قَالَ: فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَأَنَّ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ كَمَا يَئِنُّ الصَّبِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ” (قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط البخاري).
- الكون خلق مقدر:
والكون كله حين خلق لم يكن صدفة فهو قدر مقدر، بل حياة الكون بما فيه من صغير أو كبير، وما فيه من عظيم أو حقير، وما فيه من ظاهر أو كامن، ومن متحرك وساكن، وراكع وساجد، بل وما فيه من الذرة إلى المجرة، كل ذلك إنما هو بقدر مقدر عند الله سبحانه الذي قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]. إنه كما يقول سيد قطب: تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الصورة، وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال.. (في ظلال القرآن (6/ 3440).
الوقفة الثانية: لماذا هذه الأحداث؟ وأحب أن أوضح هنا أن هذه الأحداث التي تضرب الناس هنا أو هناك، لا تخرج عن كونها قدر من أقدار الله، لا تحدث إلا بقدر ولا تكون إلا لحكمة. ومن حكم هذه الأحداث أن الله سبحانه يريد أن يعطي الإنسان درسا ويظهر له ضعفه وعجزه وجهله، فإن الإنسان مهما أوتي من العلم لن يستطيع أن ينفذ في كون الله إلا بسلطان: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. إن الغرب كله بما أوتي من علم لسان حاله أنه أصبح (على كل شيء قدير) وهكذا توحي إليه حضارته المادية، ولكن الغرب كله بأساطيله التي تضرب في الأرض يمنة ويسرة، ولا بجيوشه التي تموج في البر والبحر ذهابا وعودة، ولا بعلمه الذي وصل بها إلى القمر والمريخ اكتشافا وخبرة، أن يتوقف هذا الإعصار أو أن تحد من قوته، أو أن تنقذ أحدا من رعاياه أراد الله له الهلاك أو الموت، ولله در الشاعر:
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزدانا سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا
فلو جنَّ هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
الوقفة الثالثة: الأحداث الكونية تصيب المسلم وغيره:
بعض الناس يفرحون أن يموت الناس في أمريكا وفي غيرها في مثل هذه الأحداث الكونية، وقد يخفى على البعض أن الغرب (أمريكا وأوربا) بهما ملايين من المسلمين، ولهذا فقد تكون هذه الأحداث الكونية من أعاصير وزلازل عقوبة إلهية، وقد تكون رحمة ربانية. وقد روى الشيخان عن عَائِشَة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ».
وليس في مقدور أحد أن يزعم أن هذا الإعصار عقاب لفلان أو أن ذاك الزلزال رحمة بعلان، فهذا فقط بيد صاحب الحكمة المطلقة والعلم المطلق،
فقد يضرب الحدث الطبيعي من زلزال أو إعصار أو فيضان بلدا ما، وفيها المسلمون وغيرهم فيكون لبعض للمسلمين بلاء ورحمة كما قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وروى مسلم «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، وقد يكون اجتباء واختيارا، ولهذا كان القتيل في الهدم أو الغرق شهيدا، روى الشيخان أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”، وقد يكون عقوبة لأهل المعاصي -ولغير المسلمين -الذين بلغتهم الرسالة- قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال سبحان: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 45 – 47].
الوقفة الرابعة: هذه المئات التي تموت في بلاد الغرب؛ بل والألوف التي تموت هنا وهناك، ما موقفها من الإسلام وما موقف الإسلام منها. وما هو مصيرها إن لم تصلها رسالة الإسلام؟ هل للمسلم أن يفرح بموت كافر ربما لم تبلغه الرسالة، هل كان النبي يفرح عند موت من بلغته الرسالة ولم يسلم؟ إن فرحه كان لهلاك من حاد الله وكفر به، أما ما سوى ذلك فقد كان حريصا على هديته، وانظر إليه وهو يقول لعلي كما في الصحيحين: ” فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»، وما أروعه عندما آمن به يهودي فحمد الله باكيا على ذلك، روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
إن دعوة الإسلام دعوة عالمية، ورسولها هو الرسول الخاتم، وعليه فإن هذه الدعوة لا بد وأن تصل لكل الناس، وقد درج العلماء على أن يقسموا أمة الإسلام إلى قسمين:
- أمة إجابة: وهم المسلمون ممن وصلت إليهم الرسالة وآمنوا بها.
- أمة دعوة: وهم كل من لم تصل إليه رسالة الإسلام.
وإذا كان في العالم الآن نحو 8 مليارات من البشر، منها نحو 2 مليار من المسلمين، و3 من أديان أخرى، فإن نحو 3 مليارات ربما لا تعرف عن الإسلام شيئا، ولا أبالغ عندما أقول: إن كثيرا ممن على ظهر البسيطة يعتقدون: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قاطع طريق، وأنه رجل شهواني، وأنه سافك دماء، وأن الإسلام دين إرهاب، يتعطش للدماء وسفكها، وللشهوات وارتكابها، وللذات ونيلها!!
ماذا قدمنا نحن لهؤلاء؟ هذه الألوف التي تموت يوميا فيي شرق وفي غرب، ولم تصل إليها رسالة الإسلام ما موقفنا منها بين يدي الله يوم القيامة؟
ماذا سنقول لله حين يسألنا عنهم؟ ماذا قدمت لهم؟
ماذا لو قالوا يوم القيامة: يا رب هؤلاء لم يبلغونا رسالة نبيك!