- السؤال: السلام عليكم… فضيلة الشيخ: سمعت أحدهما يقول بأن القرض أفضل من الصدقة، واستشهد بحديث (الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر)، لكن كيف يكون ذلك مع أن المقرض يسترد ماله، والمقترض لا يسترد ماله؟ هل من الممكن أن حصل على إجابة حول هذا الموضوع؟
ملخص الفتوى:
الصدقة والإقراض من القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه، أما أيهما أفضل الصدقة أم القرض؟ ففي هذا خلاف، والصحيح أن الأصل هو أفضلية الصدقة على القرض، لكون المتصدق لا يسترد ماله بينما المقترض يسترد ماله، وما جاء في تفضيل القرض على الصدقة ضعيف، حتى وإن صحّ فالحديث محمول على صدقة من نوع خاص، حيث يكون القرض لمكروب شديد كربه فدفع به كربته وذهب به همه وانقضى غمه، ومن الممكن أن ينظر إلى كل فعل من حيث الابتداء والانتهاء، فالقرض أفضل من حيث الابتداء لأنه يصون وجه المقترض، والصدقة أفضل من حيث الانتهاء لأن الآخذ لن يردها…
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛
الصدقة والإقراض من أفضل القربات:
فلا شك أن كلا من الصدقة والإقراض من القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه، أما الصدقة فقد قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وروى مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ»، وأما عن إقراض الآخر، فهذا يدخل في عموم تنفيس الكرب، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”، وروى أحمد عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ، فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» (قال محققو المسند: حديث صحيح، وصححه الألباني).
- أيهما أفضل الصدقة أم القرض؟
أما أيهما أفضل الصدقة أم القرض؟ ففي هذا خلاف فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصدقة أفضل من القرض، وقال آخرون: بل القرض أفضل من الصدقة، ولكل ما يتمسك به من الأدلة:
أولا: أدلة القائلين بأن الصدقة أفضل من القرض:
وقد استدل هؤلاء بأحاديث تدل على أن الصدقة أفضل من القرض، ومنها:
- روى ابن ماجه عَنْ قَيْسِ بْنِ رُومِيٍّ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ أُذُنَانٍ يُقْرِضُ عَلْقَمَةَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَطَاؤُهُ تَقَاضَاهَا مِنْهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقَضَاهُ، فَكَأَنَّ عَلْقَمَةَ غَضِبَ، فَمَكَثَ أَشْهُرًا ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِي، قَالَ: نَعَمْ، وَكَرَامَةً، يَا أُمَّ عُتْبَةَ هَلُمِّي تِلْكَ الْخَرِيطَةَ الْمَخْتُومَةَ الَّتِي عِنْدَكِ، فَجَاءَتْ بِهَا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدَرَاهِمُكَ الَّتِي قَضَيْتَنِي، مَا حَرَّكْتُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَاحِدًا، قَالَ: فَلِلَّهِ أَبُوكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ بِي؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ، قَالَ: مَا سَمِعْتَ مِنِّي؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً»، (حسنه الأرناؤوط، وقال الألباني: ضعيف إلا المرفوع منه فحسن).
- روى أحمد عن عَطَاء بْن السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ أُذْنَانَ، قَالَ: أَسْلَفْتُ عَلْقَمَةَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا خَرَجَ عَطَاؤُهُ، قُلْتُ لَهُ: اقْضِنِي، قَالَ: أَخِّرْنِي إِلَى قَابِلٍ، فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ، فَأَخَذْتُهَا، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: بَرَّحْتَ بِي وقَدْ مَنَعْتَنِي، فَقُلْتُ: نَعَمْ، هُوَ عَمَلُكَ، قَالَ: وَمَا شَأْنِي؟ قُلْتُ: إِنَّكَ حَدَّثْتَنِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِنَّ السَّلَفَ يَجْرِي مَجْرَى شَطْرِ الصَّدَقَةِ “. قَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ كَذَاكَ، قَالَ: فَخُذِ الْآنَ. (قال محققو المسند: إسناده حسن).
- روى ابن ماجه عن ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً» (ضعفه الألباني).
ثانيا: أدلة القائلين بتفضيل القرض على الصدقة:
- روى ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ” (قال الألباني: ضعيف جدا، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف).
- روى الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ، فَرَأَى عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشْرٌ» (المعجم الكبير للطبراني (8/ 249)، وحسنه الألباني).
- روى البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ قَالَ: ” قَرْضُ الشَّيْءِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَتِهِ” (السنن الكبرى للبيهقي (5/ 579) ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4085).
- العلة عند من قال بتفضيل القرض على الصدقة:
ومن ذهب إلى تفضيل القرض على الصدقة عللوا ذلك بأشياء:
- أن الأصل في المقترض أنه يكون محتاجا، أم السؤال فقد يتوعده بعض الناس، قال الشوكاني: قال في البحر: وموقعه أعظم من الصدقة، إذ لا يقترض إلا محتاج… (نيل الأوطار (5/ 272). وهذا يظهر من سياق حديث أنس الذي استشهدوا به وفيه:”فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ”.
- أن المتصدق لا يتألم في صدقته إلا عند خروجها، أما القرض فصاحبه يتألم كلما حضر وقته وامتنع المقترض من السداد، يقول الشعراوي: وقيل: إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله، في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها، لكن القرض تتعلق نفسك به، فكلما صبرت مرة أتتك حسنة، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجاً… (تفسير الشعراوي (2/ 1041).
- الأصل تفضيل الصدقة على القرض:
والصحيح أن الأصل هو أفضلية الصدقة على القرض، وذلك لأمور:
- قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، وها نص واضح أن التصدق بهذا القرض أفضل من أخذه، وقد أشار الجصاص فقال: قوله عز وجل: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يعني والله أعلم: أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير من إنظاره به؛ وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض لأن القرض إنما هو دفع المال وتأخير استرجاعه… (أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (1/ 582).
- كون المتصدق لا يسترد ماله بينما المقترض يسترد ماله، قال شهاب الدين النفراوي: المعتمد أن الصدقة أفضل من القرض؛ لأن المتصدق لا يأخذ بدلها بخلاف المقرض…) (الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (3/ 1122).
- كون الحديث في تفضيل القرض على الصدقة ضعيف، فما رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ ” فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ” (قال الألباني: ضعيف جدا، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف)، ومار رواه البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ قَالَ: ” قَرْضُ الشَّيْءِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَتِهِ” (ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4085).
- حتى وإن صحّ الحديث كما فيما رواه الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، «دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ، فَرَأَى عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشْرٌ» (المعجم الكبير للطبراني (8/ 249)، وحسنه الألباني)؛ فالحديث محمول على صدقة من نوع خاص، حيث يكون القرض لمكروب شديد كربه فدفع به كربته وذهب به همه وانقضى غمه… وسيأني بيان ذلك لاحقا.
- من الممكن أن ينظر إلى كل فعل من حيث الابتداء والانتهاء، فالقرض أفضل من حيث الابتداء لأنه يصون وجه المقترض، والصدقة أفضل من حيث الانتهاء لأن الآخذ لن يردها، وقد أشار إلى ذلك المناوي فقال: وجمع بعضهم بأن القرض أفضل الصدقة باعتبار الابتداء بامتيازه عنها بصون وجه من لم يعتد السؤال وهي أفضل من حيث الانتهاء لما فيها من عدم رد المقابل وعند تقابل الخصوصيتين قد ترجح الأولى وقد تترجح الثانية باعتبار الأثر المترتب والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان وعليه تنزل الأحاديث المتعارضة… (فيض القدير (3/ 519.
هذا؛ والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب