- السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أنا صانعة محتوى وفي بعض الحلقات التي قدمتها تحدثت عن بعض نماذج النجاح مثل (جان كوم – Jan Koum) مالك (الواتس اب)، و (جاك ما- Jack Ma) مؤسس موقع (علي بابا)، وتعرضت للانتقادات لأنهم غير مسلمين، ورددت بأن الحكمة ضالة المؤمن، وأننا قد نتعلم من تجارب غير المسلمين في أمور الدنيا… ما راي فضيلتكم… وجزاكم الله خيرا
ملخص الفتوى:
لا مانع أن يستشهد بغير المسلمين مهما كان دينهم طالما أن هذا الاستشهاد لا ارتباط له بالشرع، إما ّا كان قصة نجاح أو ما شابه فلا مانع، وقد نقل أهل العلم عن كثير من غير المسلمين، وكما أن (الحكمة ضالة المؤمن)، على أن ينبه على معتقده حتى ل يخدع الناس، وإن وجد المسلم الناجح في هذا المجال فالاستشهاد به أولى…
الإجابة:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين..
أما بعد،،،
فشكر الله للسائلة الفاضلة تحريها لمعرفة الحلال والحارم، وشكر الله لها فيما تقدمه من خير ونفع للناس، وأما بخصوص ما ورد في السؤال فأقول وبالله التوفيق:
- لا يجوز الاستشهاد في أمور الدين بما يصدر عن غير المسلمين، فدين الله لا يؤخذ إلا من أهله، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44]، ويقول في وصف الربانيين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، ويقول أيضا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
- الأصل في أمور الدنيا أن يكون استشهادنا بما لدينا من نماذج رائدة وتاريخنا مليء بهذه النماذج كما أن واقعنا الحاضر فيه من النماذج الرائدة في كافة المجالات، وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ينوه على ما في بعض أصحابه من تفوق وتميز، ومن ذلك ما رواه السيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ “، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»، وروى البخاري عن سعد بن أبي وقاص، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “إِيهٍ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ».
- نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح للصحابة أن ينقلوا عن بني إسرائيل، ولا شك أن النقل عنه إنما يكون فيما فيه مصلحة أو منفعة كبرت أم صغرت، روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
- جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مدح الروم، وهم أسلاف أبناء أوربا، فقد روى أحمد عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ” تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ “، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ لَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: ” لئِنْ قُلْتَ ذَاكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَسْرَعُ النَّاسِ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَإِنَّهُمْ لَخَيْرُ النَّاسِ لِمِسْكِينٍ وَفَقِيرٍ وَضَعِيفٍ، وَإِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَالرَّابِعَةُ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَإِنَّهُمْ لَأَمْنَعُ النَّاسِ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ” (قال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الصحيح.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى صنيع أهل الجاهلية فيما فعلوه بما سمي بحلف المطيبيبن، روى أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ”، وعلى الرغم من كفرهم جميعا إلا أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على صنيعهم واستشهد به، وأخبر أنه لو دعي لمثله لكان فاعلا.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا هريرة في الانتفاع من الشيطان، وهو من هو في الضلال والإفساد؛ بل النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالكذب فقال في قصة حراسة أبي هريرة لأموال الصدقة كما عند البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه… فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ».
- وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم استشهد بكلام شاعر من شعراء الجاهلية، فقد أثنى صلى الله عليه وسلم على كلام لبيد، ونقل عنه مما قاله في الجاهلية، وإن كان لبيد أسلم فيما بعد، وقالوا: إنه لم يقل شعرا بعد إسلامه، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ…
- ورد أن عائشة رضي الله عنها مدحت عند النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جدعان، وكان من أهل الجاهلية، فلم ينهها النبي عن مدحها له بما صنع، وإنما أخبرها أنه لن يفيده ذلك، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ” لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ”.
- المسلم مطالب بالانتفاع بالخير حيثما وجده، وقد روى الترمذي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» (ضعفه الألباني والأرناؤوط) والحديث وإن لم يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سندا فإن المعنى صحيح، وذلك أن المسلم لا مانع من أ يطلب الخير من أي جهة كانت، ما لم يكن ثم ما يمنع من ذلك شرعا، والله يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقد أحسن من قال:
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص
- لم يزل أهل العلم من القديم وحتى وقتنا هذا يستشهدون بأقوال وأفعال غير المسلمين، ولم يتهمهم أحد لا في دينهم ولا خلقهم، بل هو من باب (الحكمة ضالة المؤمن) كما بينت سابقا. ومن يقرأ كتاب (بهجة المجالس) لابن عبد البر، أو (أدب الدنيا والدين) للماوردي يجد كثيرا من النقولات عن غير المسلمين.
- إن وجد في تراثنا وحاضرنا الإسلامي ما يغني عن ذلك فلا يجوز النقل عن هؤلاء القوم، وهذا يعني الأفضل والأحسن والأولى أن تكون استشهادتنا بمن وعمن صلح اعتقادهم وحسنت سيرتهم، ونبلت أخلاقهم.
- شروط مهمة:
وهذا النقل مشروط بشروط ومرعي بضوابط:
- أن يكون الاستشهاد بما لا يخالف الشرع ولا الأصول، فإن خالف لا يقبل حتى وإن كان من مسلم يدعي الإسلام وخدمته.
- ألا يكون الشخص معاديا للإسلام، أو معروفا بمعادته الإنسانية بأفعاله أو أقواله.
- أن ينوه على دين من استشهد به، حتى يعرف الناس معتقده، فقد يحسبه البعض مقبولا في كل شيء.
- إن كانت هناك ضرورة للاستشهاد بالمعادي فلا مانع مع التنويه على معتقد، وما فيه من فساد، والضرورة التي دعت إلى الاستشهاد.
- مدح الكافر أو غير المسلم بما فيه لا يعد كفرا بحال من الأحوال، إلا إذا كان هناك رضا بما هو عليه من معتقد.
هذا والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
د. أكرم كساب